المنظومات أو الألفيَّات في أبواب العلم من أمتع ما يشحذ الهِمَّة للمذاكرة ومراجعة الدُّروس والمسائِل . وقد ظهرت ألفيَّات كثيرة في أبواب المسائِل والعلوم مثل ألفية العراقي وألفية ابن مالك ، وألفية الفرائض وألفية عِلل الحديث وألفية أصول الفقه وألفية صفوة الزُّبد ، وغيرها كثير .
وصفوة الزُّبد منظومة فقهية في المذهب الشافعي مُمتعة جداً ونافعة جداً ، وهي تُساعد طالب العلم على تقوية المَلكة الفقهية والُأصولية من خِلال ربط الأحكام التكليفية والوضعية بالأحكام الفقهية ، بأسلوب بياني بديع قد يندر في متون الفقه الأخرى .
وهذه المنظومة من أولها إلى آخرها قواعد وفوائد مرتبة ومبوبة ، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أن البيان بالقواعد من أصح أنواع البيان وأقواها حجة ، كما أشار إليه السمعاني(ت:562هـ) تعالى في كتابه قواطع الأدلة .
وقد كتبتُ تعليقات في أوقات متباعدات على نسختي من منظومة الزُّبد ، ثم يسَّر الله جمعها وتنقيحها في هذه الأيام . أسأل الله أن ينفع بها كما نفع بأصلِها . وبالله التوفيق .
1 -صفوة الزُّبد ألفُ بيت في الفقه الشافعي نظمها العلامة أحمد بن حسين بن رسلان ( ت :844ه) تعالى، وقد استفاد أحكام منظومته من كتاب ” الزُّبد ” لهبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم البارزي (ت: 738هـ ) رحمه الله تعالى . وقد مهَّد ابن رسلان لمنظومته بأبيات في الوعظ والُأصول ، وختمها بأبيات في التصوف والسلوك ، اقتبسها من جمع الجوامع لابن السبكي (ت: 771 هـ) تعالى .
ويظهر أن ابن رسلان – رغم موهبته الفقهية والُأصولية – فيه نَفَس أصولي أشعري ، بحكم البيئة التي خالطها ونشأ فيها . ويبدو أنه تأثر بابن البارزي صاحب كتاب الزُّبد الذي لخَّص منه صفوة الزُّبد ، فقد كان هو الآخر صوفياً يغلب عليه الغلو في تصوفه ، كما يظهر ذلك في كتابه : ” توثيق عُرى الإيمان في تفضيل حبيب الرحمن ” . والله أعلم .
2-تضمَّنت المنظومة سبعة وستون باباً من أبواب الفقه ، فقد ابتدأها الناظم بكتاب الطهارة وختمها بكتاب العتق ، وهناك مقدمتان إحداهما في الوعظ والُأصول ، وخاتمة في التصوف ، جعلها حِلية للكتاب . وفيها فوائد .
3-عقيدة الناظم صوفي أشعري وله تأويل للأسماء والصفات ،كما يظهر من خِلال كتابه شرح سنن أبي داود . فقد وقع في تأويلات كلامية كما هي عادة أتباع المذهب الأشعري . لكن له ردود طيِّبة على المعتزلة عفى الله عنه . والناظم من تلاميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ ) تعالى ، وقد تأثَّر به في طريقته في الفقه والإستنباط والتأويل . ومن شيوخه أيضاً” عبد الله بن خليل البسطامي ” ، تلقَّى عنه التصوف والسُّلوك.
4- أبيات المنظومة لطيفة ومسبوكة وفيها بلاغة ، وتتميز بإتصال أبياتها بما يليها ، ليسهل على المطالع حفظها وإستظهارها عند الحاجة .
5-مسائل المنظومة نحو ألف مسألة فقهية بعضها أوردها بالمنطوق ، والبعض الآخر ساقها بالمفهوم ، واحتوت على الشروط والأحكام والتقسيمات والضوابط المحرَّرة ، مما يجعلها أشمل المنظومات وأكثرها تحريراً لمادة الفقه الشافعي المعتمد عندهم .
6-الناظم ابن رسلان له عناية بالأصول كما يظهر من أبياته في ربط الأحكام التكليفية بالوضعية ، وقد صنف كتاباً في الأصول بعنوان ” شرح منهاج البيضاوي ” وله شرح على جمع الجوامع لابن السُّبكي ، وله شرح على مختصر ابن الحاجب في الأصول .
7-الناظم دقيق في عنايته بالمعتمد من مذهب الشافعي في إيراده للأحكام الفقهية ، فعند اختلاف الأقوال يرُجِّح ما رجَّحه الشيخان الرافعي(ت: 624هـ ) والنووي(ت: 676 ه) رحمهما الله تعالى .
8- مسألة ترجيح مذهب بأكمله وجُزئياته على مذهب آخر في قسم العبادات أو المعاملات محلُّ نظرٍ ونقد لمن درس فقه المذاهب؛ والصحيح أن يقال: أقرب المذاهب في باب العبادات في الجملة المذهب الفلاني، وقد يكون الوصف صحيحاً في قسم العبادات في الجملة بالنسبة لمذهب الإمام الشافعي؛ لأن مذهب الشافعي يكثر فيه الوقوفُ عند النصِّ، وعدم اعتبار المصالح المرسلة، والاستحسان. وأمر العبادة خاصةً مبني على التوقُّف، بخلاف المعاملات فإنها مبنية على جلب المصالح للعباد، ودرء المفاسد عنهم. فهذا مما يُقوِّي الأدلة المرجِّحة لقسم العبادات من مذهب الشافعي دون قسم المعاملات. ولذلك نلاحظ المذهب الشافعي في باب المعاملات يمنع بيع المعاطاة، مع وقوع ذلك من الناس كثيراً، وإلا لأبطلنا معظم العقود الواقعة منهم، كما يجيز التعامل ببيوع العينة والآجال، مع أن المقصودَ منها التحايل على الربا ،كما ذهب إليه بعض أهل المذاهب من الحنفية والمالكية والحنابلة، والمتقرِّر أن العبرة في العقود للمعاني والمقاصد لا للألفاظ والمباني، فإن الألفاظ قوالبُ المعاني، والألفاظ غير مرادة لذاتها، وأمر المعاملات اليوم لا يمكن إجراؤه على مذهب الشافعي في الجملة لما تقدَّم .
وفحوى الكلام أن لكل مذهبٍ من المذاهب الفقهية له رُجحان في قسم من الأقسام ، وقد أبى الله العصمة لكتابٍ سوى كتابه، أو لبشرٍ سوى رسله وأنبيائه ، عليهم الصلاة والسلام.
9- استفتح ابن رسلان منظومته بالحمد فقال : الحمدُ للإله ذي الجلال .. وشارع الحرامِ والحلالِ . ثم صلاةُ الله مع سلامي .. على النبي المصطفى التهامي.
قلت : مسألة وصف الرسول بالتهامي: لا حرج في إطلاقها ، فقد قال الأصمعي : إذا خلَّفت عُمان مُصعداً فقد أنجدت ، فلا تزال مُنجداً حتى تتنزل في ثنايا ذات عِرق، فإذا فعلت ذلك فقد أتهمت إلى البحر، وإذا عَرضت لك الحِرار وأنت مُنجد فتلك الحجاز ، وإذا تصوَّبت من ثنايا العرج واستقبلك الأراك والمرخ فقد أتهمت، وإنما سُمي الحجاز حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد . وعلى هذا الوصف فلا حرج من وصف محمد بالتهامي ، لأنها إقليمه .
10-قوله : كلامه كوصفه القديم..الخ . وصف الله بالقِدم لم يثبت لا في الكتاب ولا في السنة . والصحيح أن كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد، وأنه صفة ذاتية فعلية .
ويُغني عنه اسمه تعالى ( الأوَّل ) .والإخبار عن الله تعالى بأنه قديم جائز ولا حرج في ذلك .وقد جاء في حديث عمرو ابن العاص : ” وسُلطانه القديم ” كما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح. وهذا من أوصاف الصفات.
11-تضمَّنت مُقدِّمة الوعظ بعضاً من الحِكم والمواعظ المسبوكة كقول الناظم : فاعمل ولو بالعُشر كالزكاة .. تخرج بنور العلم من ظلمات .
وقوله أيضاً: فعالمٌ بعلمه لم يعملن ..مُعذَّب من قبل عُبَّاد الوثن. فيا ليت طالب العلم يُراجعها لينتفع بها ! .
12-قوله : إن صدق القلب وبالأعمال .. يكون ذا نقص وذا كمال . وقال قبلها : والنطق بالشهادتين ..الخ . قلت : ومن مجموع البيتين يتبين أن الإيمان يستلزم القول والإعتقاد والعمل . وبعض العلماء ينسب إلى أهل السنة أنهم يقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان فقط، ويقولون إن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وجميع الأعمال الواجبة شرطٌ فيه . فالقول عندهم يستلزم أن أهل النفاق مؤمنون لكن مستحقين للوعيد ، والقول الثاني يستلزم تصحيح مذهب الماتريدية وأهل الرأي . والصحيح والراجح أن الإيمان قول وعمل : قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح . أو هو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان . فالإيمان ليس التصديق فقط ، فقد فُرِّق بينهما ، كما في المرفوع في الصحيحين : ” تكفَّل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي وتصديق بكلماتي ” . فيكون عمل الجوارح لازمٌ، لقول الله تعالى : ” وما كان الله لِيُضيع إيمانكم ” ( البقرة : 143 ) . أي صلاتكم. فسمَّى الله الصلاة إيماناً .
13-قوله : كذا له أن يُؤلم الأطفالا …الخ . مسألة إيلام الأطفال ذكرها القرطبي في تفسيره وبين فوائدها في الدنيا والآخرة ، وأن فيها من الحِكم والدلالة على سنن الله في خلقه بما لا تُدركه العقول . وقد قال أهل الطِّب إن في أدمغة الأطفال رطوبة لا يُخففها إلا البكاء والألم .
14-قوله : أو قُلتين بالرطيل الرملي ..الخ . أشار في هذا البيت وفي غيره من أبيات المنظومة إلى كثير من المقادير والموازين الشرعية . منها : القلتان وهما (203 )كغ ، ومنها البريد وهو (24 ) كيلو ،ومنها الرطل وهو (406) جرام ، ومنها الصاع وهو (2166) غرام ، ومنها الفرسخ وهو (6 ) كيلو ، ومنها المُدُّ وهو( 541 )جرام ومنها نصاب الذهب وهو( 84 ) جرام ومنها نصاب الفضة وهو( 625) جرام ومنها نصاب السرقة وهو (جرام ذهب وربع الجرام ) تقريبا ومنها الوسق وهو (130) جرام .
15-قوله : نجاسة الخنزير مثل الكلبِ.. تُغسل سبعاً مرة بِتُربِ . المعتمد عند الشافعي أن الخنزير كالكلب يُغسل الإناء من ولوغه سبع مرات ، إحداهن بالتراب . واختار النووي أنه يُغسل مرة واحدة . والأحناف قالوا يجوز غسل إناء الخنزير ثلاثا ً وجوباً ، أو خمساً أو سبعاً ندباً.
16-قوله : يُسنُّ لا بعد زوال الصائم .. وأكَّدوه لانتباه النائمِ . قلت : مذهب الشافعي يُكره إستعمال السواك للصائم بعد الزوال ، ومثله قالت الحنابلة في أحد القولين عن أحمد ، في صيام الفريضة والنافلة . أما الحنفية والمالكية ورواية عن أحمد فقالوا بالإباحة . وهو إختيار النووي كما في المجموع .
17-قوله : تُسنُّ في مكتوبة لا جمعة .. وفي التراويح وفي الوتر معه . قلت : الصحيح أن صلاة الجماعة فرض كفاية وليسة سنة مؤكدة ، لحديث : ” صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ ” . وهذا اختيار النووي تعالى .
18-قوله : تعزية المصاب فيها السُّنة .. ثلاث أيام تُوالي دفنه . قلت : تحديد التعزية بثلاثة أيام صحيح لحديث : “لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحُدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا.” متفق عليه. ويُستثنى من ذلك إذا كان المُعزِّي مسافراً ولم يعلم بالحال.
19- قوله : أداء مثل صاع خير الرسل.. خمسة أرطال وثلث رطل .قلت : تقدَّم قبل قليل بيان الموازين الشرعية ،وفيها بيان الصاع والمد ، فلتراجع .
20-قوله : هذا الذي أشار إليه الرافعي .. والنووي اختار بالمطالِع . قلت : والحكم المراد في البيت أنه إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بمكان ، ثبت في حق من قرب منه وهو من كان دون مسافة القصر .والحكم خلافي بين الشيخين . وهذا البيت في المنظومة قاعدة مذهبية في الفقه الشافعي ، حيث إن الرافعي ( ت: 624هـ ) والنووي (ت: 676 هـ) رحمهما الله تعالى حرَّرا مذهب الشافعي ونقَّحاه ، وأصبحا عُمدة في الإجتهاد والفتوى. فترجيحاتهما معتمدة عبر القرون ، ويُعبَّر عنهما بالشيخان لفضلهما وعِلمهما . وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالعمل بما عليه النووي . ويأتي بعدهما في الترجيح ابن حجر (ت: 852هـ)والرملي (ت: 1004هـ )رحمهما الله تعالى . وعند الشافعية إذا اطلقوا عبارة اتفق الشيوخ فيعنون بهم : الرافعي والنووي والسبكي . رحم الله الجميع.
21-قوله : صحَّت على أشجار نخلٍ أو عنب .. إذ وقتت بمدة وفيها غلب . قلت المقصود المساقاة على أشجار النخل والعنب . وهذه المسألة مشهورة عند الشافعية لغرابتها . ومذهب الشافعي أن المساقاة لا تصح إلا في النخل والعنب فقط دون غيرهما من سائر الأشجار . وقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يُشترط في صحة المساقاة نوع معين من الشجر . وقالت المالكية إن مورد المساقاة الحبوب والبقول فقط مما لا يُخلف شيئاً . وقالت الحنابلة إن مورد المساقاة جميع الأشجار المثمرة المأكولة فلا تصح في الشجر غير المثمر . واختار النووي صحة المساقاة على غير النخل والعنب ،كما في تصحيح التنبيه . وسبب الخلاف أن المساقاة رخصة أو غير رخصة في أصناف بعينها ؟ . والله أعلم .
22-قوله : والسنة الطلاق في طُهرٍ خلا .. عن وطئه أو باختلاع حصلا . قلت : أشار في البيت إلى مسألة مهمة وهي هل الخلع طلاق أم لا ؟ . والصحيح أن الخلع طلاق بائن . وهذه المسألة خلافية . والله أعلم >
23- قوله : ووجِّه المذبوح نحو القبلة .. وقبل أن تصلِّ قل بسم الله . قلت : الصلاة على النبي عند الذكاة غير مشروعة ولا دليل عليها ، وقول بعض الشافعية بالاستحباب فيه تكلُّف وقياس في غير محلِّه . والله أعلم .
24- قوله : والحق أن تمكث حيث أنزلك .. حتى يكون الله عنه نقلك . قلت : هذا البيت من جُملة الأبيات التي ختم بها الناظم صفوة الزُّبد ، ويقصد به ترك التدبير لأنه أساس التصوف عندهم . وهذا مُخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب الأخذ بالأسباب والعمل والقصد وتصحيح العزيمة مع التوكل على الله تعالى . والأدلة على هذا أكثر من أن تُحصى ، وليس هذا محلُّ بسطها ، وفي سورة الملك وسورة العصر بعضها ، فلتُراجع في كتب التفسير . وما أجمل قول ابن القيِّم (ت: 751هـ ) تعالى:
” ألقى اللهُ سبحانه العداوةَ بين الشيطان وبين المَلك, والعداوة بين العقل وبين الهوى , والعداوة بين النفس الأمَّارة وبين القلب. وابتلى العبدَ بذلك وجمع له بين هؤلاء, وأمدَّ كل حزب بجنودٍ وأعوان, فلا تزال الحرب سجالاً ودولاً بين الفريقين, الى أن يستولي أحدهما على الآخر, ويكون الآخر مقهورًا معه. فاذا كانت النَّوبة للقلب والعقل والمَلك ، فهناك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح وقرة العين ،وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم .
وإذا كانت النَّوبة للنفس والهوى والشيطان ، فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكاره وضيق الصدر وحبس المَلك ” اهـ .
25-ختاماً فإن من أراد تقوية المَلكة الفقهية والُأصولية فليُكرِّر هذه المنظومة عشرات المرات ، حتى ترسخ معانيها في الفؤاد ، وليطالع معها متناً في أُصول الفقه ، ويتأمَّله مراتٍ ومرات ، فسيجد من الفتوحات الربانية ما يشرح الصدر وينير الدُّروب ويفتح أبكار المسائل . والله الموفِّق .
هذا ما تيسر تحريره . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
د/ أحمد بن مسفر العتيبي
( منقول )
https://vb.tafsir.net/tafsir47365/#.XGPJ288zbow
https://ahmad-mosfer.com/1485
0 التعليقات:
إرسال تعليق